المقالة الاولى
محمد عبد الجبار الشبوط
لماذا لا تقود الدعوة المشروع الوطني الديمقراطي في العراق؟
12 اذار 2007
1. مقدمة
انطلقت الدعوة منذ اواخر خمسينيات القرن الماضي بوصفها مشروعا اسلاميا تغييريا انقلابيا وليس اصلاحيا للحياة العامة في مجتمعات المسلمين. وقد وضعت الدعوة لنفسها خطة مرحلية لانجاز هذا المشروع تبدأ بمرحلة التأسيس والبناء والفكر السرية، ثم مرحلة الصراع السياسي العلنية، ثم المرحلة الجهادية المسلحة، واخيرا مرحلة الحكم. وكانت ذروة هذا التخطيط العمل على اقامة دولة اسلامية في العراق.
ويكمن جوهر كل هذه المراحل في العمل على انجاز عملية تغيير شاملة للمجتمع انطلاقا من المحتوى الداخلي للافراد والمجتمع، والعلاقات الافقية والعمودية لهم، بناء على ما يطرحه الاسلام من تصورات في هذا المجال، ابرزها ذلك الذي يقول ان المحتوى الداخلي هو حصيلة تفاعل الارادة مع الفكر في التطلع الى رؤية مسقبلية للحياة. وقد قاد عملية التنظير لهذا المشروع الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في كتاباته الرائدة التي جسدت فهمه الشمولي للمشروع الحضاري الاسلامي الذي يتجاوز حتى مشروع الدولة فضلا عن مشروع السلطة، فيما قاد الشهيد الخالد عبد الصاحب دخيل (ابو عصام) الجانب العملي والتنظيمي لهذا المشروع التاريخي الكبير. واذْ ادركت القوى الدولية التي كانت الدعوة تطلق عليها عنوان الاستعمار، بعد فترة من التأسيس وخاصة بعد مواكب الطلبة في اواخر ستينيات القرن الماضي، خطورة هذا المشروع الحضاري-التغييري على استراتيجياتها في المنطقة، فانها عملت على اجهاضه وافشاله والقضاء عليه.ومن هنا جاء انقلاب 17 تموز عام 1968 الذي حمل حزب البعث الى السلطة بهدف مركزي كان واضحا منذ البداية وهو القضاء على المشروع النهضوي والتغييري التي كانت تحمله الدعوة. ومع ان الكثير من الدعاة شعروا بخطورة هذا التحول وكاتبوا قيادة الدعوة انذاك، الا ان ما بين يدينا من وثائق لا يشير الى ان القيادة كانت تشاطر الدعاة فهمهم ومخاوفهم تلك. وكان من مبررات القيادة في هذا الخلاف قولها، استنادا الى مقولات دعوتية، ان حزب البعث من الاحزاب شبه المبدئية التي لا يمكن ان تحدث تغييرا فكريا شاملا في المجتمع يعيق المشروع التغييري للدعوة. واطمئنانا الى صحة هذا التحليل لم توافق القيادة على تكييف التكتيك السياسي، مع الحفاظ على الاستراتيجية، بشكل يجهض نوايا العدو. بقية التطورات معروفة لكل القراء والدعاة خاصة. والمهم في هذه التطورات انها تمكنت عمليا من تعطيل وحجز المشروع التغييري، بمعناه الانقلابي العميق الذي نظّر له الامام الصدر والقائد ابو عصام عليهما رحمة الله.
بعد 9 نيسان عام 2003 تغيرت البيئة السياسية المحلية والدولية بشكل كبير. وكان من نتائج هذا التغيير ان حملت الدعوة وغيرها من تنظيمات الحركة الاسلامية العراقية الى السلطة في العراق. وكان من الطبيعي ان تتم مراجعة الستراتيجيات السابقة ووضع تصورات وخطط تناسب المرحلة الجديدة التي دخل فيها العراق ومعطياتها وظروفها الدولية. ولست ادري انْ كانت قيادة الدعوة قد قامت بمثل هذه المراجعة الشاملة ام لا، لكني اعلم انها اعادت طرح وثيقة "برنامجنا" التي كانت كتبت في الاصل في اوائل التسعينيات، مع ادخال بعض التغييرات فيها، من قبيل تثبيت القول بقبول الآليات الديمقراطية، دون التعمق بالتأسيس النظري لها. لكن هذه الوثيقة لا تملك من الخصوصية ما يمكن معه تمييز الطرح الدعوتي، عن غيره من الطروحات السياسية التي لا تنطلق اساسا من رؤية فكرية سياسية تغييرية، بالمقارنة مع المشروع التغييري الاول ومشروع الدولة الاسلامية. وتمثل هذه الحالة ثغرة في الرؤية والستراتيجية الدعوتية تنذر بامكانية تحوّل الدعوة الى مشروع سلطة، اكثر من كونها مشروعا تغييرا حضاريا وفكريا شاملا، فضلا عن مشروع دولة.
ربما كان على قيادة الدعوة ان تقوم بامور اخرى بعد سقوط الصنم والعودة الى العراق. ولست اريد ان اقيّم هذا الامر الان، كما اني لست في وارد الدخول في سجال نقدي حول اداء الدعوة في هذه المرحلة، لكني اقترح على الدعوة والدعاة التفكير بالامر على محورين:
المحورالاول، تفعيل المشروع التغييري الثقافي الفكري الاصلي للدعوة، بعد اجراء تعديلات مهمة عليه، على مستوى المادة والموضوع والهدف. اما "المادة" فهي المشروع الحضاري الاسلامي، أي منظومة القيم التي يقدمها الاسلام للانسان بغض النظر عن الدين والانتماء السياسي، مضافا اليها معطيات العصر على قاعدة الانفتاح الحضاري التي يقرها الاسلام. واما "الموضوع" فهو المجتمع نفسه، بوصفه منظومة علاقات محكومة بنظام قيم، أي توجيه المشروع الحضاري الاسلامي الى المجتمع نفسه، بغرض اشاعة القيم والافكار الحضارية الاسلامية فيه، على قاعدة الدعوة الشهيرة القائلة ان كل ظاهرة في المجتمع هي موضوع للتغيير. واما "الهدف" فهو خلق المواطن الصالح والمجتمع الصالح، المجسد للمشروع الحضاري الاسلامي، بشكل يساعد على انجاز العمل في المحور الثاني الاتي. في هذا المحور يمكن للدعوة ان تستثمر امكانات السلطة في خدمة المشروع، بحيث تكون المشاركة في السلطة هدف وسيلة وليس هدف غاية، اذا شئنا استخدام مصطلحات الامام الشهيد. وهذا من شأنه ان يعطي اطارا حضاريا متقدما لألية التنافس على مواقع الحكم والسلطة، بل قد يساعد على تهيئة بيئة وظروف تمكن الدعوة من العمل على الغاء نظام المحاصصة الذي قاد ضمن عوامل اخرى المجتمع العراقي الى شفا حفرة من نار الحرب الاهلية. هنا اقول انه من الحرام ان تغرق الدعوة، بعد كل ماقدمه شهداؤها من تضحيات، في اوحال مشروع سلطة فقط، ينتفع به بعض افرادها، وتبتعد بالمقابل عن مشروعها التغييري الشامل الذي ينتفع به الجميع. بل اني قد اذهب الى القول ان المسوغ الحقيقي للمشاركة في السلطة ينبغي ان يكون لخدمة المشروع التغييري الحضاري.
المحور الثاني: انضاج، والعمل على تحقيق، مشروع الدولة الحديثة، بالتعاون مع الفرقاء السياسيين الاخرين في المشهد العراقي. ليس سرا انه لا احد الان في هذا المشهد يحمل مشروعا للدولة الحديثة، خاصة وان هؤلاء الفرقاء غرقوا منذ اللحظات الاولى لسقوط الطاغية بلعبة تقاسم السلطة وهي لعبة ادت، في نهاية المطاف الى انقسام السلطة اثنيا وطائفيا واوصلت العملية الى طريق مسدود سمح بتهيئة شروط الحرب الاهلية، وجعل البعض يفكر بمخارج تصادر على المطلوب. وسوف يتعين على مشروع الدولة الحديثة الذي ادعو الى بلورته دعوتيا، بل اسلاميا، ان يجيب عن الاسئلة المفصلية المتعلقة بهوية الدولة العراقية، وطريقة المشاركة السياسية في حكومتها، وآلية تقاسم الثروة بشكل عادل، واخيرا مشكلة رسم الخارطة الادارية للعراق بشكل ينزع فتيل صراعات دموية قد تنشب سعيا وراء الارض. وغني عن القول ان مشروع الدولة الحديثة يجب ان يجيب على اسئلة اخرى متعلقة بالنموذج الديمقراطي المناسب للعراق بوصفه مجتمعا تعدديا، بما يُمَكِّن من تطبيق ديمقراطية تُطَمْئِن التكوينات الاجتماعية، بدون الوقوع في فخ المحاصصة اولا، وبدون مصادرة الحقوق السياسية والثقافية للفئات العرقية، التي لم يعد من الصحيح القفز على حقيقة وجودها، وبخاصة الشعب الكردي، والتركمان والاقليات القومية الاخرى ثانيا. ويلاحظ ان مشروع الدولة الحديثة، بوصفه مشروعا وطنيا ديمقراطيا، يشجع على بروز هوية وطنية مشتركة، لا تتجمد عند تخوم الهويات الفرعية، لكن لا تتنكر لها. وهناك سؤال الدين، وموقعه ودوره ومساحة هذا الدور. فضلا عن "الاحتلال" وتكييف الموقف نظريا وعمليا منه. وقد سبق لي ان دعوت الى تعويم الموقف منه في هذه المرحلة، حفاظا على وحدة العراقيين وصونا لدمائهم من السفك والهدر والانزلاق الى الحرب الاهلي وتسهيلا لتحقيق التعايش المجتمعي و المصالحة السياسية.
ومن الممكن تلمس العلاقة بين محور المشروع الحضاري الاسلامي و محور مشروع الدولة الحديثة على النحو التالي: ان المشروع الحضاري الاسلامي، في الوقت الذي لا يدعو فيه الى اقامة دولة اسلامية، فانه يوفر اطارا قيميا وثقافيا لاقامة دولة حديثة. ويمكن ان تؤدي الدراسة التحليلية للمشروعين الى الخروج باستنتاج يقول انه لا تناقض او تخالف بينهما، انما هما حلقتان في ستراتيجية مجتمعية اشمل لبناء امة عراقية في اطار الوطن العراقي، تجمع بين خصوصيتها الوطنية وبين حداثة العصر الراهن وصولا الى تحقيق تنمية مستدامة تُؤَمِّن التحسين المستمر لحياة العراقيين.
يبقى ان اقول انه لا يمكن ان تحقق الدعوة هذا النقلة في مخططها الستراتيجي مالم تتوافر جملة عناصر اذكر اثنين منها الان، وهما وحدة الدعوة، واستقطاب الطاقات.
فاما وحدة الدعوة، فليس من المجدي رد الدعوى القائلة ان الدعوة الان مشتتة، ويتمثل هذا التشتت بوجود حزبين للدعوة يشاركان معا في السلطة، اضافة الى وجود مجموعة دعوتية اخرى، او ربما اكثر، خارج السلطة. فضلا عن الكم الهائل من الدعاة المنقطعين والسابقين.
واما مسألة الطاقات المبعثرة والضائعة، فهي اوضح من ان يُجادَل بشأنها، فقد انتج العراق خلال السنوات الثلاثين الاخيرة حزمة بالغة الكبر من حيث الحجم والعدد والكفاءة، من الطاقات في مختلف المجالات، وفيه الكثير من الدعاة الحاليين والمنقطعين والسابقين، ولم يتم للاسف استقطابهم بعد السقوط، ولا توظيف طاقاتهم في خدمة بلدهم وشعبهم، لأسباب كثيرة ابسطها غياب المشروع الدعوتي او حتى الاسلامي الشامل، بعد ان غرقت او تكاد الحركة الاسلامية بمشروع المحاصصة السلطوية.
في ظل هذا التشرذم التنظيمي والشخصي يكون الحديث عن مشروع دعوتي شامل ضرب من الخيال والوهم والامنيات. لذا فان الخطوة الاولى بتصوري يجب ان تتمثل بـ "لم الشمل اولا". والبقية خير. وبذا اختم.
عدل سابقا من قبل الاداره في الأربعاء مارس 18, 2009 1:20 am عدل 3 مرات
السبت يناير 21, 2017 12:06 pm من طرف عدنان المعموري
» قصيده بعنوان كافي
الجمعة ديسمبر 19, 2014 7:50 am من طرف عدنان المعموري
» عن لسان ام الشاعر الراحل رحيم المالكي
الأحد يوليو 06, 2014 1:52 pm من طرف عدنان المعموري
» القصيدة التي أغضبت سلاطين المنطقة الخضراء
الثلاثاء أكتوبر 02, 2012 12:44 pm من طرف عدنان المعموري
» قصة مؤثرة عن غيرة النساء
الجمعة يونيو 29, 2012 1:06 am من طرف عدنان المعموري
» أبن شقيق الجعفري يكشف تفاصيل الاعتداء عليه بالضرب من قبل أبن شقيقة المالكي وأقربائه
الأربعاء مايو 23, 2012 12:06 pm من طرف عدنان المعموري
» يا احبيب / صاحب الضويري
السبت مايو 12, 2012 12:24 am من طرف عدنان المعموري
» خانقين..الوردة البيضاء..مدينة التآخي والسلام
الخميس فبراير 16, 2012 12:16 pm من طرف حسين:خانقين
» هدية لكم جميعا..مع باقات من النرجس من على سفوح جبال كردستان
الخميس فبراير 16, 2012 5:21 am من طرف حسين:خانقين
» الأشعة..منافعها واضرارها وهذا الحديث مع طبيبة اختصاصية في م. خانقين
الخميس فبراير 16, 2012 5:06 am من طرف حسين:خانقين
» دعوة للمشاركة
الخميس أكتوبر 06, 2011 9:22 am من طرف د.مسلم بديري
» قصص قصيرة جدا
الإثنين يوليو 18, 2011 5:00 pm من طرف د.مسلم بديري
» قصيدة (جيش الشيب) للشاعر الشاب سعد السوداني
الجمعة يونيو 24, 2011 11:49 am من طرف عدنان المعموري
» قصيدة (جيش الشيب) للشاعر الشاب سعد السوداني
الجمعة يونيو 24, 2011 11:47 am من طرف عدنان المعموري
» زعلتك صدك
الثلاثاء يونيو 21, 2011 1:22 pm من طرف عدنان المعموري
» يا احبيب /للشاعر صاحب الضويري
الإثنين يونيو 13, 2011 11:49 am من طرف عدنان المعموري
» أكميله للشاعر عارف مأمون
الإثنين أبريل 04, 2011 8:17 am من طرف عدنان المعموري
» كل ساعة انذبح من عرست لليوم وكل ساعة انسحك بجدام تذكارك
الإثنين أبريل 04, 2011 8:13 am من طرف عدنان المعموري
» قراءة الواقع الثقافي في العراق
السبت مارس 12, 2011 1:13 pm من طرف قاسم المعموري
» اشعل فتيلها الكادحون والرافضون للظلم
الثلاثاء مارس 08, 2011 1:05 pm من طرف قاسم المعموري